کد مطلب:369629 سه شنبه 3 اسفند 1395 آمار بازدید:362

تمهید
تمهید

التاریخ الإسلامی بین الواقعیة والموروثات

لقد اتّسم التاریخ الإسلامی بجملة من الأمور المهمّة التی میزته عن غیره، أبرزها ارتباطه بالدین والشریعة وسیرة نبیّ الإسلام(ص)، إذ طالما عكف المؤرّخ غیر الإسلامی على تدوین أمجاد ملوكه وحضارة قومه وبلده، بینما نجد المؤرّخ الإسلامی ـ فی المقابل ـ قد جعل سیرة نبیّ الإسلام وسلوكه ومواقفه محوراً لتدویناته.

كما امتاز التاریخ الإسلامی أیضاً، بوفرة المادة التاریخیة؛ فكثیرٌ من الوقائع قد دُوّنت وسُطّرت بمختلف جوانبها، هذا مع ابتعاده عن جانب الأسطورة والخرافة، بالقیاس إلى المستوى الذی ابتلیت به فی هذا المجال تواریخ بقیة الأمم والحضارات.

غیر أنّ هذا لا یعنی نموذجیة التاریخ الإسلامی، وأنّ الوقائع والأحداث قد وصلت إلینا كاملةً وبواقعها الحقیقی، وإنّما معرفةُ ذلك منوطةٌ بالدراسة المعمّقة، والوقوف على الكیفیة التی وصلت إلینا من خلالها تلك الوقائع والأحداث، والعوامل التی ساهمت وأثّرت فی نقلها، وهذا موكول إلى علم التاریخ، فهو الذی یتكفّل بذلك.

ومن خلال التأمّل فیما بین أیدینا من مدوّنات تاریخیة، قد نصل إلى قناعة أكیدة بوجود مواطن من الخلل والنقص فیها، ولعلّ الباحث یلمس بوضوح أنّ هناك حلقات مفقودة من التاریخ الإسلامی، وفراغات واضحة بین حقائقه من خلال تسلسلها الزمنی.

فهناك وقائع قد اعتراها النقص ولم تكتمل فصولها، كحروب النبیّ ـ على سبیل المثال ـ فقد تثیر فی نفس الباحث كثیراً من التساؤلات عنها، والتی لا یُعثر لها على إجابات فی كتب التاریخ، وكذا شجاعة أمیر المؤمنین علی(علیه السلام) فی میادین الحرب، ونصرته للدین ودفاعه عن المظلوم والمحروم، فقد تكتَّم التاریخُ بشكل واضح على التفاصیل الجزئیة لهذه الأمور وأمثالها.

ومن جملة الأمور التی اعتراها النقص، أو قُلْ: التشویه التاریخی أیضاً، واقعة یوم الغدیر، والتی هی من الأحداث المهمة فی تاریخ الإسلام، والتی حظیت بعنایة خاصة من قبل الرسول(ص)، فقد تحمّل عناء الموقف، وجابه كلّ التحدیات التی كانت تعترضه آنذاك، فخطب فی ذلك الجمع الغفیر خطبته الأخیرة، بعد أنْ أوقفهم على دنوّ رحیله إلى الباری تعالى، وأتمّ الحجّة على الجمیع بإتمام رسالته وإكمالها، وأمور أخرى تضمن لهم دیمومة الإسلام ونهجه القویم، وتضمن لهم عدم الضلال فی متاهات الهوى.

وكذلك واقعة السقیفة، والتی كانت من أخطر الأحداث فی تاریخ الإسلام؛ بما كان لها من دور فی تعیین مسار الإسلام بعد رحیل النبیّ الأكرم(ص)، فقد تركت ـ هی الأخرى ـ تساؤلات كثیرة لازالت قائمة إلى الآن، ابتداءً من أصل شرعیتها ومروراً بأحداثها وانتهاء بما تمخضت عنه من نتائج.

كما لا ینبغی أنْ نغضّ النظر عن تاریخ أهل البیت(علیهم السلام)، فهو أیضاً قد أُهمل الكثیرُ منه، بالرغم من ثبوت منزلتهم فی الإسلام ودورهم فی تثبیت أركانه واستمرار نهجه، وما ورد فی حقهم من وجوب المودة والإكرام.

وهناك أیضاً وقائع وأحداث أفقدها التشویه والتشویش صورتها الحقیقیة، من قبیل سیرة النبی(ص) وعلاقته مع أهل بیته، وخصوصاً ما ورد عنه من أحادیث فی فضائل ومناقب عترته الطاهرة(علیهم السلام).

وكذلك قضیة الخلیفة عثمان بن عفان، وكیف انتهى به المطاف إلى مقتله بید الثوار الذین تزعمهم ثلة من كبار الصحابة.

 وأیضاً قضیة عبد الله بن سبأ، واضطراب المؤرخین فی شخصیته، وإصرار السلفیة الوهابیة على ربطه بالتشیع! بالرغم من أنّ المذهب الشیعی قائم على أدلّة قرآنیة وروائیة صحیحة وثابتة تدل على أحقیته قبل انعقاد نطفة عبد الله بن سبأ.

وهناك أیضاً وقائع تمَّ التلاعبُ فیها، أو قلبت وثُبّتت بشكل معكوس، كحروب الردة ـ مثلاًـ أو مسألة مالك بن نویرة، أو اختلقت من دون أنْ یكون لها واقع خارجی، مثل كثیر من فضائل الصحابة، وخاصّة الخلفاء الثلاثة الأوائل، أو كبطولات خالد بن الولید، ودور القعقاع فی الفتوحات الإسلامیة، وغیر ذلك.

كما أنّ هناك وقائع أخرى قد اختلف المؤرخون فی نقلها واختفى كثیرٌ من تفاصیلها، ممّا أوجد تبایناً فی النتائج المترتبة علیها والأحكام الصادرة وفقها، كمسألة مظلومیة الزهراء(علیها السلام)، وخلافها مع الشیخین، واستعمالهما العنف ضدّها؛ ممّا تسبب فی وفاتها وهی غاضبة علیهما.

ولا شكّ أنّ ذلك الخلل أو التشویه فی التاریخ كان ولید عوامل عدیدة ساهمت فی وجوده؛ لتصبح بنیة التاریخ على ما هی علیه.

عوامل الخلل التشویه فی التاریخ الإسلامی

ونعتقد أن أهم هذه العوامل هی:

1 ـ اجتهادات ومواقف بعض الصحابة

فإنّ من یدرس التاریخ الإسلامی، ویتفحصه بإمعان وتحلیل، یجد أنّ بعضاً من وقائعه كانت نتاج العمل بالرأی والاجتهاد الشخصی.

ویمكن لنا أن نستدلّ على ذلك بسرد وقائع قد ساهمت الآراء الشخصیة ومواقف بعض الصحابة فی رسم صورتها التاریخیة، بالكیفیة الموجودة بین أیدینا الآن.

أ ـ منع النبیّ من تدوین ما یضمن للأمة عدم الاختلاف

 من هذه الوقائع، هو حیلولة بعض الصحابة دون أن یكتب النبی(ص) كتاباً یضمن لأمّته من بعده عدم الضلال والانحراف ([3])، حیث كان هذا الكتاب، یحمل فی طیّاته أموراً كثیرة ـ لاسیما تلك التی تتعلق بقیادة الأمّة من بعده ـ والتی كانت ـ لو أتُیح لها ـ سترسمُ صورةً لمستقبل الإسلام تغایر الصورة التی حصلت بعد رحیله، لكن بعض الصحابة حالوا دون ذلك؛ مما أثر ذلك على مسیرة الإسلام بشكل كبیر.

ب ـ إحراق النصوص ومحوها

ومن تلك المواقف والاجتهادات التی كان لها دور فی المساهمة بصیاغة التاریخ الإسلامی بصیغته الحالیة، قیام الخلیفة الأول بإحراق الكثیر من أحادیث الرسول(ص)([4])، وكذلك أمر الخلیفة الثانی بحرق النصوص ومحوها([5])، كما قام الخلیفة الثالث بإحراق جمیع مصاحف الصحابة([6]) فی العصر الأول، والتی تختلف عن المصحف الذی جمعه وأرسله إلى الأمصار الإسلامیة، بالرغم من اشتمال تلك المصاحف على تراث غنی من الحقائق والوقائع، من قبیل بیان أسباب النزول، ومعانی الآیات والسور، وما إلى ذلك؛ فقد ورد أن بعض الصحابة كان لهم مصاحف خاصة، جمعوها أثناء حیاة النبی(ص)، كمصحف علی(علیه السلام) ومصحف ابن مسعود وغیرهم، إلى وقت خلافة عثمان، ولا شك أن بعض هذه المصاحف قد تضمن بعض التفاسیر وبعض أسباب النزول وغیر ذلك كالتعلیقات ونحوها([7]).

ج ـ منع التدوین

 لقد سعى الخلفاء إلى منع تدوین الحدیث النبوی، وسار على هذا النهج من أتى من بعدهم من حكام الدولة الأمویة إلى زمن عمر بن عبد العزیز، مما أدّى إلى ضیاع العدید من الأحادیث النبویة؛ بسبب موت ناقلیها أو شهادتهم فی الحروب، كما تعرّض الكثیر منهاـ نتیجة طول هذه الفترة ـ للتشویه والتغییر فی المضامین، بسبب كثرة الوسائط فی النقل، الذی اعتمد فی أكثره على النقل بالمعنى دون التقید بنفس اللفظ الذی صدر عن رسول الله(ص)، والذی یتأثر بفهم الصحابی للحدیث، ومدى لیاقته لذلك، ولا شكّ أنّ التدوین لو كان قد حصل فی زمن النبیّ(ص)؛ لحفظ لنا السنّة بكاملها؛ ولصار مرجعاً موحّداً للأمّة، لا یشذّ عنه إلا منافق أو مریض القلب؛ ولانتهت أكثر الخلافات التی عصفت بالمسلمین, ووئدت فی مهدها.

د ـ منع التحدیث وفرض القیود على المحدثین

ولم یتوقف الأمر على منع التدوین، بل سرى إلى سیاسة منع روایة الحدیث وفرض القیود على الرواة([8])، ولم یقتصر هذا المنع على كلمات وأحادیث الرسول، بل امتدّ لیشمل الكثیر من الوقائع والأحداث وخصوصاً المتعلّق منها بتاریخ وسیرة أهل البیت(علیهم السلام).

 وملخص القول: أنّ السنّة تعرّضت للمنع تحدیثاً وتدویناً، ولم یرفع الحظر عنها إلاّ بعد أنْ انقرض عصر الصحابة، وقد أدّى هذا الأمر إلى ضیاع السنّة، وجعلها عرضةً لجمیع الاحتمالات، من قبیل الوضع والدس والتحریف، وغیر ذلك.

2 ـ سیاسة الحكومات

العامل الثانی مرتبط بالسیاسات التی اتخذتها الحكومات التی تعاقبت على حكم الدولة الإسلامیة، حیث كان لها الأثر البارز فی تدوین وصیاغة التاریخ الإسلامی بشكله الحاضر، فقد قامت الدولة الأمویة بكتابة أولى المدونات فی الحدیث والتاریخ، ففی أیامها رُفع الحظرُ عن الحدیث، وفی ظلّها خُطّ التاریخ الإسلامی الأول، ولا یخفى ما كان لهذه الحكومة من توجهات ومیول خاصّة، خصوصاً توجهها المناهض لآل البیت النبوی، حیث مارست سیاسةَ الترهیب والترغیب، حتى وصل الأمر إلى درجة أنّ ذكر اسم علیّ(علیه السلام) والتفوّه به، یعدُّ جریمةً كبرى، فكان العلماء والمحدّثون، بل حتى بعض كبار التابعین، لا یجرؤون على ذكر اسمه(علیه السلام). فقد أخرج المزیّ فی تهذیب الكمال، بسنده عن یونس بن عبید، قال: «سألت الحسن([9]) قلت: یا أبا سعید، إنك تقول: قال رسول الله، وإنك لم تدركه؟ قال: یا بن أخی، لقد سألتنی عن شیءٍ ما سألنی عنه أحد قبلك، ولولا منزلتك منی ما أخبرتك، إنی فی زمان كما ترى ـ وكان فی عمل الحجاج ـ كلّ شیء سمعتنی أقول: قال رسول الله(ص)، فهو عن علی بن أبی طالب(علیه السلام)، غیر أنی فی زمان لا أستطیع أن أذكر علیّاً»([10]).

 واستُخدِمت الأسالیبُ الملتویةُ فی التدوین، من قبیل الوضع والدسّ أو الحذف والتشویه فی الموروث الدینی للمسلمین، ممّا ترك بصماته على الدین الإسلامی برمّته.

ثمّ أعقبتها الحكومة العباسیة بما كانت علیه من الازدواجیة وسیاسة اللعب على الحبال؛ لأجل البقاء فی الحكم أطول فترة ممكنة، فهی فضلاً عمّا كانت تكنّه من العداء الشدید لبنی أمیّة ـ كما هو شأن جمیع المتنازعین على كرسی الحكم ـ كانت تتظاهر فی الوقت نفسه بالسعی من أجل إرجاع حقوق آل بیت النبیّ(ص)، حتّى جعلت كسب رضا آل محمّد(ص) شعاراً لها، ولكن واقعها العملی فیما بعد كان قد كشف بجلاء زیف هذا التظاهر.

وقد ألغى هذان النظامان وأتباعهما كلَّ الأصول التاریخیة التی لا تتوافق مع توجهاتهما، كما قاموا بتسخیر الأقلام بما یتلاءم مع هذه التوجهات.

ومن هنا نجدُ أنّ التاریخ الإسلامی وخلال هذه المرحلة، قد اتّسم بضعف مادّته وهشاشة أصوله ممّا أثر سلباً على العصور اللاحقة، فازدحمت أوراقه بكیل التهم والأباطیل بحقّ مَن یعارض توجهات حكوماتهم أو ینتقد سیاستهم، وأُسهب فی الحدیث عن كلّ ما یمتّ للحكام بصلة، حتّى مجالس لهوهم ومجونهم، بینما ساده ـ أی التاریخ ـ الاختصار فی الحدیث عن الأمور المهمّة، والتی عبّرت عن عزّة المسلمین وقوتهم ووحدتهم وغناء تراثهم، ومن المؤسف أنْ نشاهد بعض المؤرخین، وفی هذا الوقت بالتحدید، یتعاملون مع النصوص التاریخیة لهاتین الحقبتین بقدسیة مفرطة، حتى عدّوها من الأمور الحتمیّة والقضایا المسلّمة التی لا غبار علیها، والتی لا ینبغی ـ بل لا یجوز ـ التشكیك فیها، فرفضوا إخضاعها للنقد والمناقشة؛ لمعرفة حقیقة الحال فیها ومدى مصداقیتها الواقعیة.

3ـ العقائد والمتبنیات الفكریة للمؤرخ

احتلّت العقیدة والمنهج الفكری بالنسبة للمؤرخ مكانة متمیزة فی التأثیر على كتابة التاریخ الإسلامی، فقد كان المؤرخ ـ فی الغالب ـ ینساق وراء متبنّیاته العقدیة والفكریة على حساب الحدث التاریخی نفسه، ونذكر هنا ـ على سبیل المثال ـ مسألة عدالة الصحابة والتفاضل بینهم، فقد قال الذهبی فی تعلیقه على ما جرى بین الصحابة من حروب وفتن: “وهذا فیما بأیدینا وبین علمائنا، فینبغی طیه وإخفاؤه، بل إعدامه لتصفوا القلوب، وتتوفر على حب الصحابة والترضی عنهم، وكتمان ذلك متعیَّن عن العامّة وآحاد العلماء”([11]).

وأشار إلى ذلك ابن حجر المكی فی (تطهیر الجنان) عند كلامه عن مسألة الإمساك عمّا جرى بین الصحابة, وأنّ هناك تآلیف صدرت من بعض المدونیین تعرضت لتلك الظواهر, فقال: “كابن قتیبة مع جلالته القاضیة بأنْ كان ینبغی ألا یذكر الظواهر فإنْ أبی إلاّ ذكرها فلیبین جریانها على قواعد أهل السنّة حتى لا یتمسك مبتدع أو جاهل بها”([12]).

وقال الطبری: “وذكر هشام عن أبی مخنف، قال: وحدّثنی یزید بن ظبیان الهمدانی أنّ محمّد بن أبی بكر كتب إلى معاویة بن أبی سفیان لما ولى... فذكر مكاتبات جرت بینهما كرهت ذكرها؛ لما فیه مما لا یحتمل سماعها العامّة”([13])، وقال فی قضیة مقتل عثمان: “قد ذكرنا كثیراً من الأسباب التی ذكر قاتلوه أنّهم جعلوها ذریعة إلى قتله، فأعرضنا عن ذكر كثیر منها؛ لعلل دعت إلى الإعراض عنها”([14]). وقد ذكر ابن الأثیر هذین الموردین فی تاریخه أیضاً([15]). وقال الطبری أیضاً: “إنّ الواقدی ذكر فی سبب مسیر المصریین إلى عثمان ونزولهم ذا خشب أموراً كثیرة، منها: ما تقدّم ذكره، ومنها: ما أعرضت عن ذكره؛ كراهیة منّی ذكره لبشاعته”([16]).

وقد تعاظم تأثیر هذا العامل فی مسألة صیاغة التاریخ الإسلامی، بحیث قاد فی الأخیر ـ مضافاً لعوامل أخرى ـ إلى ولادة الفرق والمذاهب الإسلامیة بمختلف توجهاتها.

 مستلزمات ونتائج

 وكان من نتائج مجموع هذه الأمور، وربما غیرها، هو غموض كثیر من الوقائع التاریخیة لدى شریحة واسعة من المسلمین، أو خفاؤها من الأساس، مع ما لها من الأهمیّة والحساسیة بالنسبة لهم؛ ممّا خلّف تبعات كثیرة، خاصّة بما یتعلق بتعمیق الاختلافات المذهبیة، ومن بین تلك القضایا حادثة الاعتداء على السیدة فاطمة الزهراء(علیها السلام)، والتطاول على حرمتها, فإن هذه الحادثة رغم ذكرها فی بعض مصادر أهل السنة إلا أنّ التعتیم الذی مارسته سیاسة الاقصاء ضدّ كلّ ما من شأنه أن یصب فی صالح مذهب أهل البیت(علیهم السلام), قد ساهم بشكل كبیر فی ضیاع القسم الأعظم من تفاصیلها، لذلك یعمد بعضُ علماء أهل السنّة إلى إنكار كلِّ ما له مساس مباشر بالقدسیة التی أضفوها على الصحابة، ویتصادم بشكل واضح مع نظریة عدالتهم جمیعاً، والتی أسس علیها علماء أهل السنة مذهبهم.

ونحن هنا لسنا بصدد محاكمة من قاموا بذلك الاعتداء، وإنما نرید النظر فی حقیقة الأمر من جهة كونه حادثة تاریخیة، لها أدلّتها وبراهینها.

ملاحظات عامّة حول المناظرة

وقبل أن نستعرض هذه المناظرات؛ أحببنا التطرُّق إلى بعض الملاحظات المهمَّة، والتی نرى من الضرورة بمكان أن یتعرَّف علیها القارئ الكریم، منها:

1ـ أنَّ من الأصول المسلّمة فی المناظرات هی أنّ الاحتجاج على الفریق الآخر لا بدّ أنْ یكون بما یتبنّاه ویصحّ عنده من روایات وقواعد وغیرها, بینما نرى كثیراً من الباحثین عن مذهب التشیع، ومن السلفیین تحدیداً، یستغلُّون كلّ ما هو شاذّ أو ضعیف أو موضوع من الروایات الشیعیة، والتی لا تصلح للاحتجاج فی الأحكام فضلاً عن العقائد، وینسبوها للشیعة على أنها من صمیم عقائدهم، ویحاكمونهم فی ضوئها، وهذا الخطأ فی المنهج سار علیه أغلب ـ إن لم نقل جمیع ـ من ناظر الشیعة أو حاورهم فی هذه المناظرات أو غیرها بدون استثناء، وكأنهم لم یریدوا التعرُّف على مذهب أهل البیت أكثر، أو الوصول للحقیقة التی غُیِّبت عن المسلمین لفترات طویلة، وإنّما همَّهم الوحید هو القضاء على التشیّع وإطفاء شعلته الوقَّادة؛ علماً أنّهم یرفضون استدلال الخصم علیهم بأمثال هذه الروایات والتی امتلأت بها كتبهم.

2ـ لم یراعِ القائم على هذه المناظرات العدالة فی مسألة تقسیم الوقت بین الطرف الشیعی والطرف الآخر، بل هو فی تحیُّز واضح للثانی، ممّا یدلّ على أنّ له موقفاً مسبقاً من الشیعة.

3ـ یقوم أیضاً ـ وبشكل متعمَّدـ بكثرة المقاطعة للطرف الشیعی، بحیث لم یمهله أنْ یكمل حدیثة أو یبیِّن مراده للسامعین، ممّا یشوِّش الفكرة ویقطعها من سیاقها فتبدو ضعیفة أو مرتبكة، ولهذا لم یستطع أكثر المتحاورین من الشیعة إبراز أدلّتهم بصورة كاملة وواضحة، وقصده من هذه المقاطعة هو الحیلولة دون أنْ یتعرَّف المتلقی على هذه الأدلّة؛ فیقتنع بها أو تفتح له آفاقاً جدیدة للمطالعة والبحث.

4ـ یرى المتابع وبوضوح أنّ الطرف المناظر، وفی كلّ فصول المناظرة معنا ومع غیرنا على حدّ سواء، یتَّبع الأسلوب الخطابی الدعائی المفبرك؛ فیلجأ إلى إثارة العواطف وتهییج المشاعر وتحریك أحاسیس المتلقی السنّی ووجدانه، بما یعتبره طعناً بمقدساته التی لا یساوم علیها ولو تنازل عن حیاته فی مقابل صونها والحفاظ علیها؛ وذلك عن طریق الإیحاء له أنّ الشیعة أعداءٌ للصحابة وأمهات المؤمنین، وهمهم الوحید هو سبهم والطعن فیهم وتشویه سمعتهم، ومن ثم إسقاط عدالة هؤلاء الصحابة التی تفضی ـ بحسب زعمهم ـ إلى هدم الدین! وقصدهم من ذلك أن یعتقد السامعُ بأن الشیعةَ فرقةٌ خارجةٌ عن الإسلام! فلا یحاورهم ولا یجالسهم ولا یخالطهم؛ خوفاً من التعرّف على الحقیقة التی غیّبت فی بطون الكتب؛ وزیادة فی تجییش المشاعر العدائیة بین المسلمین، وهم بهذا قد حققوا ـ بقصد أو بغیر قصد ـ ما حلم به أعداء الإسلام وما خططوا له قبل مئات السنین من تفریق المسلمین وإضعاف شوكتهم.

5ـ أنّ المتابع یرى بوضوح، وفی كثیر من الأحیان، أنّ الطرف الآخر یعمدُ إلى تكذیب الروایات التی یستشهد بها الشیعة على المدَّعى، حتى وإنْ كانت هذه الروایات صحیحةً وفق المبانی الحدیثیة والرجالیة المعمول بها عندهم، بمجرد أنّها تصبّ فی صالح عقیدة الشیعة؛ وهذا یكشف أنّ المعیار عندهم فی صحة الروایات النبویة هو توافقها مع عقیدتهم المسلّم بها سلَفاً، مع أنّ الصحیح هو عرض العقیدة على الروایات الصحیحة دون العكس.

  ومع كلّ ذلك، وأمام هذا الواقع الذی فرضه علینا غیرنا، والذی بادر إلى طرح هذه القضایا على طریقته الخاصة؛ فقد وجدنا أنفسنا مضطرِّین إلى الدخول فی هذا المعترك للتصدی ـ بما نستطیع ـ لهذه الأفكار التی من شأنها أن تفرّقَ كلمة المسلمین، وتشتّت شملهم، وتثیر الشحناء والتباغض فیما بینهم؛ استناداً إلى أوهام لا واقع لها.

 ولأهمیّة هذه الحوارات وما فیها من مطالب علمیّة تمسّ عقائد المسلمین وتاریخهم؛ ارتأینا أن نجمعها ـ مع تعلیقاتنا علیها ـ فی كتاب مستقل؛ خدمة للحقیقة التی طالما حاول المغرضون طمسها والتعتیم علیها.

 وختاماً، نضع هذا الجهد بین أیدی طلاب الحقیقة وعشّاقها؛ آملین أن یكون خطوةً ـ ولو صغیرة ـ نحو أهدافنا الكبیرة والسامیة، فی لمّ الشمل وتوحید الكلمة، ورصّ لصفوف، والاعتصام بحبل الله المتین.

د. السید محمد الحسینی القزوینی

            قم المقدسة، 1434هـ